السبت، 2 مارس 2013

اعـــتــــقــال .. !!


فتحتُ عيناي لأجدني معتقلة, مكبلة اليدين, لصيقة كرسي في منتصف مكان فسيح. أظنها ساحة, ما أوسعها مكانا للإعتقال !
 حولي أشخاص كثر لا أعلم عدتهم, يتناوبون على استجوابي. موحدو الزي والملمح كأنهم نسخ مكررة إلا واحدا منهم يبدو مختلفا, يجلس بعيدا في زاوية تتيح له رؤية كل ما يدور, على وجهه ترتسم ابتسامة غريبة ونظرة أحار في تأويلها خلف نظارته السوداء!
لا أفهم حقّاً ما يحدث حولي, يصيحون بي بين الفينة والأخرى: اعترفي... اعترفي ! بمَ سأعترف؟ ما تهمتي وماذا اقترفت يداي؟ لما أنا هنا؟ وأين أنا؟ لا أدري.. ولا أظنهم هم الاخرون يدرون, لذا لن أكسر جدار صمتي المنيع بهكذا أسئلة تافهة ! أظن أن صمتي يقض مضجعهم, ويعجبني ذلك نوعا ما.. يصرخ أحدهم في وجهي فجأة:  اعترفي وإلا ... ! جملة لا تتمة لها في اللغة على ما يبدو! وإلا ماذا ؟ سيعذبونني ؟؟ وإن يكن , فهذا الجسد على أي حال ليس ملكي , لذا فألمه لا يعنيني في شيء , فليفعلوا به ما يشاؤون ! حتى وإن تألمت فليكن ألمي الجسدي شفاء لآلام روحي التي تشعر بالغربة على هاته الارض ! ربما يتمادون إلى درجة قتلي, ويا ليتهم يفعلون ! ارمقهم بابتسامة استهزاء  تحيرهم الا صاحب النظارة السوداء, يكتفي بابتسامته الغريبة ويدنو من جاره هامسا له بكلمات لم استطع سماعها. ينقل هذا الأخير الكلام إلى من يحاذيه, وهكذا أخذوا في تواتره حتى وصل إلى صاحب الدور في الاستجواب !
بعدها بقليل عصبوا عيني وأخذوني إلى مكان آخر, مكان أعرفه ولا أعرفه, إنه معترك الحياة ! أخذت أعصابي تتشنج, والعرق يتصبب مني مطرا, ونبضي يتسارع بشكل مخيف.. !
أرى أمامي رجلا صريعا بجانبه أخوه مغتبطا لأن سهام الموت لم تصبه هو !
 أرى أناسا يرقصون بعفوية على جثث الابرياء وينشدون للثورة والحياة .. !
أرى رجلا يقطع لحم ساعده ليطعم أطفاله فتعتقله الشرطة بتهمة الاتجار باللحم الفاسد .. !
أرى احدهم يحملق ببلاهة في التلفاز بينما بيته يحترق, يحملق فيه ببلاهة اكبر بينما جسده يحترق .. !
أرى أحدهم يبيع الايمان في جرعات وقوارير وعلى شكل بخور, وينظم رحلات "روحانية" للسماء لمن يريد معرفة الله .. !
أرى رجلا يربط اللقمة بخيط فيمضعها ويتبلعها ثم يجر الخيط ليعيد مضغها من جديد, بجانبه جاره يمسح برغيف العيش بقايا الخمر من على شفاه غانيته ... !
أرى فتاة تُرجم في الشارع لأنها نسيت أن تحمل في حقيبتها مع أوراقها الرسمية شهادة عذريتها .. !
أرى [ ... ]
يكفي.. هكذا صرخت روحي بملء  تعاستها وبؤسها .. عشرون سنة في هذا الجحيم تكفي, هكذا صرختُ بملء صوتي الذي خانني , بملء صمتي .. ما عاد الصمتُ خياري وسلاحي.. التفاهة تقتلني, القرف والاشمئزاز يخرسانني ! سأعترف, أيا كان ما تريدونني أن أعترف به .. لكن ارحموني وأخرجوني من هنا !!
حان دور صاحب النظارة السوداء, يملأني الرعب والفضول. لا شك أنه سيأتي بشيء مختلف ! ابتسمَ لي في خبث ومضى يلتمس طريقه بعصاه لحيث لا أدري. سحقا, إنه أعمى ! اختلطت الأمور في رأسي الصغير, وتساقطت كل النظريات التي بنيتُها حوله والتي كانت تهوّن عليّ فترة الاعتقال ! 
ها هو ذا عائد بيده ورق ابيض وقلم. صُعِقتُ لمَرآها كمن يرى أمامه دليل إدانته ! فك قيد يديَّ وقال: اكتبي ..! لم يستصغ زملاؤه الأمر, كيف يشذُّ عن القاعدة ويطلبُ مني الكتابة بدل الاعتراف ؟! لكنه يتجاهلهم, فهو يدرك تماما بقدر ما أدرك أنا وبقدر ما يجهلون أن الكتابة أصدق أنواع الاعتراف, وأن القلم قارئ أفكار محترف وأن الورقة أنجع جهاز لكشف الكذب ! 
ماذا عساي أفعل الآن, لا خيار أمامي سوى الكتابة. فأنا مجبرة عليها, أتوق إليها وأريدها بل اكثر من ذلك أحتاج إليها.. سأكتبُ وأعترف بالرغم من أني لا أعلم ما الذي سأعترف به, لكني أؤمن أن القلم يعلم عني أكثر مما أعلمه عن نفسي ! 
فعلا شرعتُ في الكتابة بشراهة, كتبتُ الكثير ومزقتُ من الورق أكثر بكثير ! لا شيء يعجبني , لا كلام يعبر عما يجول في داخلي .. كل هذا وعيونهم تراقبني ببلاهة شديدة في حين جلس " البصير " في مكانه المعتاد دون أي رد فعل يُذكر !
ألقيتُ القلم على الورقة أخيرا بعد أن أخذ مني التعب مأخذه, لا أعلم كم قضيتُ من الوقت على حالتي هاته, بل لا أعلم كم أمضيتُ من العمر في الكتابة ! أخذ البصير الورقة وشرع في تلاوة ما جاء فيها على مسامع الاخرين.. ما عُدتُ أعلم يقينا إن كان مبصرا يشتهي العمى أم بصيرا يعلم سلفا ما سيجيئ في كتابتي !
تلى عليهم بصوت مسموع: 
" من أنا؟
إسمي, شكلي,جنسي, جنسيتي,عمري... كلها تُهمٌ لُفِّقت لي زورا, لا يد لي فيها. أنا لستُ كل ما سبق, أنا لستُ سوى ما اقترفته يداي.
غريبة أنا بينكم. جئتُ لهذه الحياة غصبا, وسأخرج منها غصبا, ويا ليت بيدي أن أختار ! الحياة بالنسبة إليَّ عقاب لا ذنب قبله, وعناء أتكبده على مضض !
جنون, كفر, إلحاد, عادات, خرافات, قتل, حروب, سياسة, كذب, خداع, نفاق,كره, حسد, خيانة, جنس, خلاعة, عري, كبت, صمت, جوع, ضعف, فقر, بذخ, غباء, جهل, تقديس, تكفير... كل ما سبق يجعل للحياة في فمي طعم المر, طعم التفاهة !
الحياة تقتلني, وروحي تستغيث وليس هناك من مغيث.. لو تعلمون توق روحي للخلاص لأعفيتموها من مسرحيتكم التافهة التي تسمونها " حياة " رحمة بها, لكني أشك أن تكون الرحمة قد عرفت لقلوبكم الآثمة سبيلا !
حياتكم لا تشبه الحياة التي أريدها.أنا اتوق إلى العيش بسلام, إلى العيش ببساطة.. أتوق إلى هواء من نوع خاص أستنشقه ملء رئتي وقلبي روحي يسمى {حب} ! .. "
فجأة يتوقف " البصير " عن الإلقاء, ثم يشرع في الضحك بشكل هستيري غريب ! أخذ يضحك حتى جثا بركبتيه على الأرض, وطفق يتمرغ فيها حتى سكن فجأة ! لقد مات من الضحك !!
لم أفهم ما الذي قد حدث, ألقى أحدهم نظرته على جثته ليستيقن موته, ثم اخذ الورقة من يده الجامدة بحذر شديد واكمل ما بدأه " البصير " بصوت مرتجف :
" أ تسألونني عمن أنا ؟
أنا إنسان, هذا كل من أنا عليه ! " 
يلقي بالورقة على الارض بسرعة كمن يخشى شرا قد تلحقه به. يتبادل نظرات مريبة مع زملاءه ثم يوجهون انظارهم إلي في رعب شديد كمن يرى شبحا .. ثم يهرولون بعيدا مذعورين !!
غادروا ولم يتبقى في المكان سوى جثة البصير وجثتي مقيدة إلى كرسي في وسط مكان فسيح, إنها ساحة.. ما أضيقها مكانا للحياة ! 

0 التعليقات:

إرسال تعليق