الثلاثاء، 10 فبراير 2015

كتيب الاستعمال !

عندما وعى الانسان اول مرة بوجوده، وجد ان كل اجهزة جسده تعمل من تلقاء نفسها الا ذاك الذي في رأسه.. فبدأ في البحث عن كتيب الاستعمال الخاص به.. لكنه بعد وهلة اكتشف ان بمجرد تفكيره في البحث عن الكتيب قد حل المشكلة، وها هو دماغه/عقله بدأ يشتغل.. 
لكن بعد زمن طويل، وبعد الدمار والخراب الذي سببهما، ادرك انه كان على خطأ وانه لا بد ان يبحث من جديد عن كتيب الاستعمال.. بدأ في التنقيب والحفر الى ان وجد سائلا اسودا جزم انه حبر الكتيب.. فواصل البحث الى ان أوشك الحبر على النضوب لكنه لم يجد الكتاب بعد..
لم تعجبه فكرة انه قد يكون على خطأ وواصل البحث رغما عن ذلك، وكلما حفر حفرة دون ان يجد فيها حبرا، حولها الا قبر جماعي يرمي فيها جثثا يعرف انها ستتحول بعد زمن الى ذات السائل الأسود، كي لا يضطر بذلك ليعترف ان كان على خطأ للمرة الثانية.. وهكذا استمر الى الانسان الأبد دون ان يدرك ان كتيب الاستعمال الذي كان يبحث عنه، كان ينبض في صدره ! 

الخميس، 4 سبتمبر 2014

الرسالة رقم (١)

أتعرف ما الأسوء من شعورك بالبؤس والوحدة واليأس وخيبة الامل والفقد.. الخ؟ 
الاسوء هو الا تشعر بأي شيء.. الا يعود لأي شيء القدرة على تحريك أدنى شعور فيك او عاطفة؛ لا الاشياء التي كانت تسعدك ولا التي كانت تحزنك ولا التي كانت تثيرك ولا حتى التي كانت تجعلك تشعر بالملل او القرف (...)
لا شيء يستقر داخلك بما يكفي لكي يصنع لنفسه صدى في ذاكرة شعورك قبل ان يبتلعه الفراغ كثقب اسود جائع..
تنسى تماماً كيف تقوم بفعل الشعور، ثم تتذكر انك لم تتعلم ذلك قط  فكيف نسيته اذن ؟! عندها لا تجد اي اجابة، ولا تجتاحك أدنى رغبة في البحث عنها وكأن روحك تعطلت فجأة عن العمل.
ثم تدخل في دوامة لا تنتهي ، حيث تشتاق الى نفسك والى مشاعر السعادة والدهشة والتمرد والحب والرغبة (...)، حتى المشاعر السلبية التي كانت تدمرك وتسحق روحك تجد نفسك لدهشتك تفتقدها بشدة.. وتضحك-في ذات الوقت- بسخرية مقيتة على اشتياقك هذا وكأن المشتاق شخص اخر غيرك.. وتكره الشخص الأحمق الذي يسخر.. وتبكي شفقة على الشخص الذي يكره .. وتغضب من الشخص  الذي يبكي ويظهر ضعفك (...) وهكذا حتى تختبر كل المشاعر في ذات اللحظة دون ان تشعري باحدها حق الشعور. لتعود الى نقطة البداية غير المحددة. فما ان تنتهي من اللف في الدائرة المفرغة حتى تبدأ من جديد كحمار طاحونة لا يتعب.
قد تدرك في لحظة ما -او قد لا تفعل- انك عندما تكون في حالة انعدام الشعور، فإنك في الحقيقة تشعر بكل المشاعر دفعة واحدة ما يجعل من المستعصي فهمها.. وهو ما يشبه الى درجة ما دمج الألوان ببعضها البعض لتؤول -بشكل يثير الدهشة- الى اللون الأبيض في النهاية. هذا اللون الأبيض هو " انعدام الشعور".
 انا الان لا اشعر بأي شيء، أي اني اشعر بكل شيء في آن واحد، وادرك ذلك جيدا.. لكن معرفتي هذه لن تفيدني كثيرا في الخروج من هاته المتاهة النفسية.. فمعرفتك بالأمور تفيد الآخرين لكنها لا تفيدك انت الا بقدر ما يستقر في المرآة من ذات ما تعكسه.. كالطبيب النفسي- اذا جاز المثال كتبسيط- عندما يصاب بالاكتئاب.. هو يعرفه جيدا ويعرف أعراضه ومراحله وعلاجه.. لكن هل تنفعه هذه المعرفة في الخروج من حالة الاكتئاب ؟ على الأرجح لا.. ولا حتى بالقدر الذي تنفع بها مرضاه.
قد يتحايل على الامر بأن يجعل من نفسه مريضا وطبيبا في الان نفسه ويتقمص دور "الاخر" كيف يستفيد من هذه المعرفة.. لا ادري مدى فعالية الحيلة لكني أطبقها الى حد ما الان عبر هاته الرسالة التي اعرف جيدا انك لن ترد عليها لانك لن تقرأها ابدا..
على أي، سأكتب اليك مجددا اذا ما شعرت بالحاجة الى ذلك، طبعا عندما استعيد رفاهية "أن اشعر"، لكن احتاج الى ان تعلم اني اشتاق اليك حتى وان لم اشعر بذلك الان واني أحبك حتى وان انطفأ فيّ كل شعور ! 


الثلاثاء، 29 يوليو 2014

مات العيد ..

ما العيدُ
قل لي ما العيدْ ؟ 
بطن خاوية ومعتقل وشهيد
ويد طفل مبتورة على الطريق 
تنتظر عيدية لن تعطاها
ويد فرعونٍ في كل طريق
ممدودة على مداها 
تنتظر شفاه العبيد

اين العيد
قل لي أين العيد ؟ 
في خيمة ومقبرة وسجن جديد
خلف جدار عازل، وجدار ازرق
وجدار آيل للسقوط 
بين كرسي ومؤخرة فرعونٍ
ترفض عنه النهوض 
فوق ارض تأبى
إلا ان نكون تحتها
تحت سماء حيرنا صمتها
لا هي تمطرنا فرجاً
ولا هي تأتينا بالوعيد 

متى العيد 
قل لي متى العيد ؟ 
بعد قصف وقمة وتنديد 
يوم يولد الهلال
على شكل صليب
وبعد ان ننتهي 
من صلاة جنازة لا تنتهي
بعد ان  نملأ مقابر لا تمتلئ
كلما قلنا هل امتلأتِ ؟
تقول هل من مزيد ؟!

جاء العيد
قل لي ماذا فعلوا بالعيد ؟
لا عيدية ولافرح ولا زغاريد
قُتِلَ محمد وعيسى ويعقوب 
يوم العيد وهم يلعبون
وأهازيج العيد بأصواتهم
لا تزال تصدح في الدروب
وعيدياتهم لا تزال في الجيوب
وصار الكفن كسوة عيد
ومات العيد..
مات العيد.. 


الأحد، 20 يوليو 2014

صديقتي .. شجرة

تقول صديقتي انها تريد ان تصبح شجرة لأن مشاكل الانسان كثيرة وهي تريد العيش دون مشاكل.. تقولها بمزيج من السخرية والمرارة.. اسخر منها كالعادة ولكن ما لا اخبرها إياه ان الفكرة أعجبتني جداً .. 
أتخيل للحظة انها شجرة.. حتما ستكون شجرة كريمة الظل وإن كانت مثمرة لا شك انها ستكون كثيرة الثمار.. ستكون شجرة  تفاح على الأرجح.
عندما احتاج الى معانقتها سألجأ الى اول شجرة اصادفها في طريقي وحتما صديقتي ستشعر بذلك وسيتحول الجدع الخشبي الى حضن حقيقي.. عندها لن يحول البعد القاسي بيننا.. لان كل شجرة عندها ستكون هي صديقتي. 
سأذهب لأجلس تحت ظلها كلما أردت ان ارتاح من يومي المتعب..
قد اكتب على الأرجح وربما سأحادثها اذا ما احتجت الى ذلك.. عندها سأكلمها فحسب دون ان تتحكم بي شبكة الواي فاي ولا شحن الجوال ولا مصاريف المكالمات الدولية الباهضة ودون ان تتخدر أصابعي من الكتابة على الكيبورد..
سأقول لها ما يجول في خاطري.. حتى الاشياء التي ما كنت لأقولها لها وهي في هيأتها الادمية.. عن شكي في ذاتي وفي كل شيء.. عن الأسئلة التي تهاجمني دون رحمة فيرتج لها إيماني.. عن غضبي من الظروف ومن خياراتي.. وقد أكلمها عن الاشياء التافهة التي لا يهتم لها احد.. 
وعندما احتاج ان تكلمني يكفي ان أضع أذني على جدعها وانصت الى لغة الأشجار التي لابد اني سأكون مجيدة لها.. ربما سأغفو وانا في تلك الوضعية فتظن عندها ان حديثها ممل فتغضب وتسقط على رأسي تفاحة عوض ان ترسل "😒" في الواتساب عندما تكون مستاءة .. عندها لن اخبرها ابدا انها المكان الوحيد في هذا العالم الذي يجعلني اشعر بالأمان لدرجة ان أغفو فيه دون أخذ الحيطة والحذر..
وعندما اكون حزينة جداً لدرجة احتاج فيها للبكاء سأبكي أمامها واحرص ان يسقط الدمع على الجذور فيتحول حزني الى ورقة خضراء يانعة كما يتحول في العادة الى نص متخم بالحياة.. 
وسأنافس العصافير المزعجة على أغصانها - التي أغار منها بشدة- في الغناء عندما اكون سعيدة..
 قد أدور حولها كطفلة في السادسة الى ان اشعر بالدوار، او اصنع على اصلب غصن فيها ارجوحة، أو اتسلقها لغرض الاختباء عندما العب لعبة الغميضة مع اصدقائي الخياليين.. وعندما اتعب من الاختباء انزل وأبكي بحرقة معترفة بذلك لها انها صديقتي الوحيدة ولا بأس ان كانت لا تستطيع لعب الغميضة.. 


الجمعة، 18 يوليو 2014

أيها الثائر

انت لا تعرف -أيها الثائر- اذا ما كان الحال سيختلف بعد الثورة عما كان عليه قبلها.. اذا ما كان سيتحسن او سيزداد سوء.. وانت ايضا لا تملك اي ضمانة تضمن لك ان يكون النظام الذي سيخلف النظام الفاسد الذي ثرت عليه أقل منه فسادا واكثر رغبة منه في الإصلاح.. ف"ما البديل؟" هو سؤال محبط لثورات .. تصل الى الحد الذي تظن ان الامر مجرد مقامرة ! وقد تكاد تموت من شكك في نفسك اذا ما كنت حقاً ثائرا ام مجرد اداة في لعبة انت لا تعرف عنها شيئا، وإذا ما عرفت تجد عقلك لا يستطيع استوعابها. وتشك حتى في الثورة بحد ذاتها إن كانت ثورة ام انها قد تكون اي شيء اخر عدا ان تكون ثورة.. بل تصل الى أن تتساءل فيه حقاً عن معنى الثورة بالأساس. تساؤل يجيء متأخراً عن وقته بكثير.. عندها تجد نفسك تائها حائرا لا تعرف شيئا على وجه اليقين.. 
عند هذه النقطة -عزيزي الثائر- يجب ان تلقي ثورتك في سلة المهملات كمسودة لرواية غاية في الرداءة، وتسف دموع الندم على الحبر الأحمر الذي كتبت به تلك الكلمات الرديئة معتقدا انها غاية في الروعة..
بعدها أعد النظر في كل ما مضى، وستجد انك جان وفاسد لذا توقف عن لعب دور الضحية وتحمل المسؤولية بشجاعة لائقة.. فما وصل عليه الحال من الفساد ليس فقط بسبب الفاسدين الذين يظهرون على ركح اللعبة السياسية وانما ايضا بسبب كل من سمح لهم بممارسة فسادهم دون حسيب ولا رقيب، وكل من صمت على ذلك او تجاهله توخيا للسلامة والأمان.. وكل من مارس فساده الخاص المصغر بحجة ان الفساد صار اسلوب حياة في بيئة فاسدة بالكامل..ستجد اننا كلنا فاسدون ومسؤولون عن التردي الحال وأقل الفساد الصمتُ عنه.. 
عندها ستعرف ان الثورة هي اولا ثورة على النفس وإصلاح لفسادها الخاص وستبدأ في التفكير واستعمال عقلك الخامل بعدما كنت مجرد متلق لأفكار غيرك، تتلاعب بك عقول الآخرين وكأنك دمية فتمارس عليك الوصاية الفكرية دون ان تشعر، ذلك انها تحرص ان تجعلك تعتقد ان تلك الأفكار -التي تبثها في عقلك كالسم- هي افكارك الخاصة التي صغتها عن ايمان عميق وراسخ..
عندما ستبدأ بالتفكير ستجد نفسك فارغا من كل شيء ذي نفع ومتخما بالتفاهات والهراء من رأسك الى أخمص قدميك..
حينئذ تعتقد انك بلغت الغاية وسرعان ماتتخلص منها وتستبدلها بأفكار بناءة، لكن ذلك بعيدا كل البعد عنك.. فعقلك عندما يبدأ بالتفكير يصبح بمثابة رسول بلا معجزات يدعوك للإيمان بدين جديد وترك ما كنت تعبده قبلا.. الامر ليس بالسهل ابدا، فهو يتطلب عملية تغيير شاملة تبدأ بالشك البناء في كل شيء. هذا الشك مختلف عن سابقه ذلك انه تحت تأطير عقل واع مفكر.. قد يتطلب منك الإيمان وقتا طويلا جداً ولا بأس في ذلك فتلك هي مرحلة بناء الذات عبر اكتساب مبادئ وقناعات باعتبار انك لبنة في صرح الوطن، لا بد ان تكون كل لبنة فيه ذات بنية قوية كي يكون قويا.. 
راجع الان المشهد برمته، لا شك ان ستجده مختلفا؛ اكثر ووضوحا من ذي قبل، ذلك ان افكارك صارت اكثر تركيزا وقوة لأنها نابعة من تفكيرك وإيمانك الخاص.
عندما تُعمل العقل تصبح حرا والفساد واه جداً امام الأحرار.. وفي اللحظة التي تجد فيها نفسك حرا ومستقلا عن كل ما من شأنه فرض وصاية فكرية عليك سواء كان ذلك من مصدر ديني او قبلي او سياسي.. الخ، في تلك اللحظة فقط تستطيع ان تخلق التغيير حيث انك قمت بما هو اصعب بكثير وهو تغيير النفس والثورة على الذات.. عندها فقط استطيع ان اخاطبك أيها الثائر دون ان أضعك بين معقوفتين كجملة اعتراضية لا محل لا من الأهمية ، لأنك الان صرت فاعلا وليس مفعولا به :) 

الخميس، 17 يوليو 2014

عود كبريت

انا عود كبريت، حياتي قصيرة جداً كسائر أقراني، لكني أؤمن ان لي مهمة عظمى.. فما بين لحظة اشعالي وانطفائي، يتوجب علي إنارة العالم بأسره، وهذا ما سأفعله..
يقولون أن هذا الحلم بعيد جداً ذلك ان كل "برغوت يحلم على قد دمه"..
احيانا أصدقهم وأغرق في الشك في ذاتي لكني اظل مؤمنا اني لن احترق عبثا كما يحترقون..
ها انا ذا احترق وانير العالم كما أوحي إليّ.. لكني أودّ ان اعترف انه لولا ان كان هذا العالم مظلما جداً لما استطاع نوري الضئيل ان يسطع على هذا الامتداد كله.. فشكرًا للرب على هذه المساعدة. 
يقولون في غيظ: سرعان ما ستنطفئ ويعود الوضع كما كان عليه.. 
مساكين لا يعلمون ان النور خالد وهم عميٌ عنه ولكن لا يعلمون..
ربما لم يصلهم ان نوري ساعد احدهم على ان يزرع شتلة، وأنار لشاعر لكي يتم قصيدته، وساعد طفلة صغيرة -تخشى العتمة- على النوم..
الان هذا النور تحول الى شجرة وقصيدة وحلم جميل.. حتما انا لم احترق عبثاً. 

الأربعاء، 25 يونيو 2014

رمضان.. مهرجان الفرح

رمضان في ذاكرتي اكثر من مجرد شهر للصيام والعبادة، بل هو أشبه بمهرجان شعبي يحتفى فيه بالبساطة والفرح. يضفي كل سنة على الحياة الرتيبة طعما مختلفا وطابعا خاصا.
مهرجان لا يحتاج الى تنظيم مسبق او حتى ترخيص بل يبدأ بتلقائية شديدة، فلا احد يعلم متى يبدأ ولا كيف.. فقط تستيقظ في احد صباحات شعبان على رائحة السفوف او الشباكية فيكون ذلك إعلانا على اقتراب الشهر الأجمل والأعظم في السنة، فتجد الحركة قد دبت في ارجاء المنزل ومنه الى الحي وباقي المدينة استعدادا لاستقبال الضيف العزيز .. تسارع النساء الى شراء "قوام" الحلويات وما يلزم من "مونة" الشهر الفضيل- التي تختلف في الكم والوفرة عن باقي الشهور- كالحمص الذي يشترى بوفرة وينقع في المياه ، والقزبر والبقدونس والكرافس والطماطم المعلبة والعدس وغيره لزوم الحريرة.. والدقيق والسميدة والزيت والزبدة لزوم المسمن والحرشة والبغرير.. وورقة البسيطلة لإعداد البريوات وغيرها.. وكل ما يلزم لإعداد الشباكية والسفوف.. الخ. بعدها يحين وقت إعداد الحلويات المتعارف على إعدادها خصيصا لاجل رمضان، وفي ذلك تتنافس المتنافسات.. 
هذا المهرجان كان بالنسبة لي احتفاء بالحواس اكثر من اي شيء اخر؛ فعيناك ترى بهجة الاحتفال في وجوه الكل كبارا وصغارا، وفي امتلاء الاسواق ورواج السلع.. ولسانك يتذوق الكرم وحب المشاركة في الأطباق الممتلئة عن اخرها بما لذ وطاب والتي ما تنفك ترى الجارات يتبادلنها فينما بينهن لتقاسم الفرح قبل " الملح ".. ويداك تلمسان التفاني والحب والعطاء كلما لامستا يد رجل يكد ويتعب لاجل ان يُدخل "القفة د رمضان" التي تدخل معها الفرحة لاسرته.. او يد امرأة تعكف طول اليوم على ازالة الشوائب من " الزرارع" وهرسها بالمهراز -الذي لا يعود صوته مزعجا كما في العادي من الايام - وغربلتها الى ما غير ذلك مما يستلزمه إعداد الحلويات. لكنها لا تشتكي بل تقوم بذلك بكل حب وسعادة .. وأنفك يستنشق طيب الأحياء التي تعبق برائحة الشباكية والبريوات وكاوكاو المحمر والزنجلان وحبة حلاوة والنافع (...) المنبعثة من اغلب المنازل، ورائحة الدقيق المحترق المنبعثة من فرن الحي.. وأذناك تستشعر الفرحة في أصوات المارة الذين يباركون لبعضهم البعض "العواشر"، وفي صخب الأطفال الذين يهرولون في الاحياء مرددين بحماس منقطع النظير : " تيريرا تيريرا.. هادا عام الحريرة ..". لا يعلو على اهازيجهم الطفولية سوى صراخ صاحبة الدقيق المحترق التي تشتكي لصاحب الفرن، والمتْعلم (صاحب الفعلة) يسمع جدالهما وينفذ بجلده قبل ان يلقى نظير انشغاله عن تحمير الدقيق باللعب ب" الطرومبية" مع اطفال الحي .. تتعالى الأصوات بين مشتك ومتوعد ومتدخل بالصلح ليشفع للصبي المتعلم عند معلمه باعتبار انهم  في  ايام " عواشر "..يتداخل كل ذلك الهرج مع أصوات نساء أخريات تستعجلن طلباتهن من عند العطار او "مول السفنج " الذي يبيع " ورقة البسطيلة" او بائع الأواني البلاستيكية التي تحفظ فيها النساء الحادكات الحلويات وغيرها من الشهيوات..
وأكثر ما خلد في روحي قبل ذاكرتي  هو الروحانية التي كانت تتسم بها تلك الايام حتى تكاد تخال نفسك قد نُقلت الى دنيا غير الدنيا.. تتنفس السكينةَ في ذرات الهواء فتملأ بها رئتيك وتشعر ان الله قريب سميع مجيب.. تستشعر حبه في ضحكات الصغار وفرحة الكبار وترى عطفه في الخيرات والرزق الوفير الذي يهل على فقيرنا قبل غنينا.. لم يكن  الاستعداد النفسي والروحي لرمضان  اقل في شيء من باقي الاستعدادات، فترى النساء المتكاسلات تسارعن الى صيام ما تبقى عليهن من دين وترى تارك الصلاة قد عاد يحث الخطى يبحث عن رضى الله وترى الرحمة الانت القلوب فتصدق أصحابها على ذوي الحاجة فيكثر الحامدون والشاكرون لفضل الله ونعمه .. 
اصف كل هذا وفي قلبي غصة وحنين، فما عدنا نستقبل رمضان بنفس الحفاوة والكرم فظن علينا وبخل بأجواء الفرح والبهجة.. مهرجان البساطة اختنق وسط التكلف ومات يوم ماتت القناعة فينا وما عاد القليل يقنعنا ويكفينا وما عدنا نعرف كيف نخلق من الاشياء البسيطة اعراسا من الفرح.. ما عادت الأذان تستطعم الفرح في عبارة " مبروك عواشرك " اذا قيلت .. وما عادت نساؤنا تجتمعن في السطوح لتنقية الزنجلان وغيره من الزرارع فيختلط "زنجلاننا" بزنجلان الجيران فيكثر الخير ويفيض، وما عادت تتطوع من تملك المهراز من بينهن الى اعارته الى باقي النساء، وتستعير بالمقابل الغربال من إحداهن و"الطحانة " من الاخرى... الان صار لكل واحدة مهرازها وغربالها وطحانتها وزنجلانها الخالص لها وحدها فقل الخير وشح ! حتى أطفالنا ما عادوا يبتهجون لاجل رمضان وما عاودوا ينشدون أهازيج في حب " الحريرة".. غابوا عن الأحياء وغابت اغانيهم وغابت شكوى النساء من صخبهم ومن رائحة الطحين المحروق منذ غاب الصبي المتْعلم وغاب فرن الحي عندما تفشت الأفران المنزلية في البيوت.. وماتت الحياة منذ غاب مهرجان الفرح والبساطة ومنذئذ ما عاد رمضان يشبه نفسه الا في ذاكرتي.. 

الاثنين، 2 يونيو 2014

كل عام وانا طفلة

في مثل هذا اليوم ولدت.. يوم لا يبعث في نفسي شيئا سوى الرغبة في الصراخ..
امي المسكينة تعاني من مخاض طويل وعسير كي تلدني للمرة الثانية والعشرين..
وكما هو الحال كل مرة، اخرج رأسي اولا لأستطلع الامور اذا ما تغيرت ام لا لأقرر إن كنت سأخرج للوجود هذه المرة ام لا، لكنهم وكما كل مرة يسحبونني من رأسي الفضولي وابتسامة الشماتة تعلن على شفاههم اني وقعت في الفخ مرة اخرى.. لم أصرخ هذه المرة، بل نظرت الى اثر السحب على رأسي الذي صار اطول من تنهيدة وضحكت.. وها انا ذا ألدغ من الجحر للمرة الثانية بعد العشرين ولم أؤمن بعد ! 
تخبرني الطفلة بداخلي ان ادع عني كل هذا الهراء، وأتذكر سنتي الابتدائية الثانية حيث كانت ذكرى ميلادي مناسبة أسبوعية تحتفل بها صديقاتي في الصف تعبيرا عن حب طفولي عميق لا ادري سببا وجيها له.. نتخيل للحظة شكل راسي لو كنت أولد كل اسبوع، فنضحك حد البكاء.. بعدها تلتفت إلي لتخبرني ان هذا اليوم لا يعني شيئا سوى انه مناسبة لطيفة كي يعبر لي أحبائي عن امتنانهم لأني على قيد الوجود .. ثم تضيف بنبرة واثقة " حري بهم ان يفعلوا ذلك " ثم تغمض كلتا عينيها محاولة منحي غمزة شقية..
تطفئ الطفلة بداخلي شمعة عيد الميلاد ثم تحرك أصابعها فيما يشبه عملية العد.. بعد عدة محاولات فاشلة تسألني عن عدد الشموع التي اطفأناها لحدود اليوم.. اخبرها بما يشبه الحسرة انها الشمعة الثانية والعشرون..تسأل بسذاجة:
- هل هذا الرقم اكبر من عشرة ؟
ابتسم شبه ابتسامة وأخبرها انه ضعف عشرة اضافة الى اثنين.. يفغر فاهها وتقول:
- اذن أنتِ الان عبارة عن مجموع طفلتين في العاشرة ورضيعة في الثانية..
اضحك لقولها كثيرا وأشعر اني عملة نقدية تم صرفها للتو.. ثم تقول بعد صمت طويل: اعذريني فأنا لا يسعني إلا ان اكون/ تكوني طفلة حتى لو كبرت !
- لكن.. 
- لكن ماذا ؟ استقولين انك كبرت وما عدتِ تصدقين ان الحلزون يصبح سلحفاة عندما يكبر؟ وان التمساح يكون في طفولته عضاءة وان الكتاكيت لا ترضع ؟ ا ستدعين انك ما عدتِ ناقمة على كاتبة هاري بوتر ج.ك رولينج لأنها لم تجعل هاري يغرم بهرميوني؟ وأنك تريدين بكل ما فيك ان تخبري ران موري ان كونان هو خطيبها سينشي ؟
- لكن ".. 
- ا ستكذبين وتقولي انك ما عدت تخلقين من طين خيالك اصدقاء خياليين كلما ضقت ذرعا من وحدتك ؟ استتنكرين لأحلامك المجنونة بأن تكوني طبيبة في منظمة أطباء بلا حدود وتكوني في نفس الوقت معلمة للغة العربية ومصورة فتوغرافية محترفة ولاعبة كرة قدم وكرة سلة رغم قامتك القصيرة وصحفية في جريدة الشرط الأوسط شريطة ان يغيروا لونها الذي يبعث على الاكتئاب ؟ وحلمك بأن تستضيفك اوبرا وينفري في برنامجها على انك اول عربية تحوز نوبل للأدب وتكتشف علاج الإيدز اتدعين انه ما عاد قائما وانه صار محل سخرية للشخص الراشد الذي اصبحته ؟
حياة الكبار لا تليق بك ولا تلائمك.. جحيم هي حياة الكبار وانت لا يسعك الا ان تكوني طفلة تكلم الله على انه صديقها المقرب وتحلم بعينين مفتوحتين وتروض العالم فيكون حيوانها الأليف.. 
انا/انت الان في السنة الثانية والعشرين من طفولتك وهتبقين هكذا الى الأبد. وحتى عندما تحين ولادتك الاخيرة ستستقبلين الموت بابتسامة طفولية وكأنه ضيف مليء بالمفاجآت وستحشرين رأسك الفضولي اولا للتلصص على العالم الاخر بينما قدماك الطاهرتين لا تزالان عالقتين في رحم الوجود.. 

الأربعاء، 7 مايو 2014

البؤساء

انا من الذين ينتقلون ببساطه 
من هامش الحياة الى هامش الشاشه
كأرقام لقتلى عابرة في الشريط
تغفل عيناك  للحظة فلا تراها
تافهة هي الأرقام أسفل الشاشه

انا من الذين يموتون من اول رصاصه
فلا مُخرج لهم يجعل -مغرورا-
صدورهم منيعة ضد الرصاص
ولا كاتب لهم يمنحهم -متألها-
الحصانة ضد الموت
فلا هم ابطال فيلم ولا ابطال روايه
أولئك الذين أرواحهم 
أرخص من ثمن الرصاص
الذي يخرق أجسادهم 
الذين يُقتلون كل يوم
دون ان تقوم لأجلهم القيامه
أجسادهم في أعين الشارع قمامه
وفي أعين الديدان وليمه
وفي أعين قالتليهم قرابين لإله السلام 
يحول أجسادهم
من جثت الى اسراب حمام
تحلّق بإسم الحرية والحب والسلام
الى ان تُسقطها مرة اخرى
رصاصة بندقيه.. 

انا من حيث.. 
لا تزال الخيام
تصدّقُ انها أوطان للاجئين 
فتظل منتصبة في اللامكان
لسنين وسنين..
حتى نكاد نصدّق الكذبة
نحن ايضاً..
بينما أوطاننا تُغتصب
وتنجب كل يوم إلها جديد 
لا يعرف كيف يعدل ويحكم
ويرزق ويغفر ويرحم
لكنه يعرف جيدا كيف يقتل
وكيف يخلق من طين الخوف
آلاف العبيد..

انا من حيث.. 
ينخدع الموت بسهولة
كلما أسمينا القتيل شهيد
فيظن انه قد فشل،
فيعيدُ الكرّة من جديد ! 

انا من حيث..
يظنون انك اذا ما
تذكرتَ الجائعين امام وليمة
سيغنيهم ذلك من جوع
وسيبتل ريق العطشى اذا ما 
رفعتَ بنخبهم كأس نبيذ ! 

انا من حيث..
يتناسل البؤس في الأرواح
فينتج منا آلاف البؤساء
تستهزئ بهم أقدارهم اذا حلموا
ويسخر الحزن على شفاههم اذا ابتسموا
كما يسخر الدفء كلما
تعانقت قطعتا جليد ! 

انا من الذين لا يزالون 
بالرغم من بؤسهم يصلّون
لينجلي هذا الليل الطويل.. الطويل
ويبزغ بعده فجر جديد
من الذين لا يزالون يحلمون 
بالحياة والحريه
 في بلاد لا ترى الحياة
الا من فوهة البندقيه..
في بلاد.. تذبح الأحلام
من الوريد الى الوريد !