عزلتي , وحدتي ترهقني .. تلك المشاعر التي تخالجني و التي لا اعرف لها مسمى هي حقا مايستنزفني ببطء , إنها ما يجعل صدري يضيق بالحياة , إنها ما يتعبني ! إنها الغربة تسحقني كما تسحق اقدام المشاة الغافلة النمل على الطرقات . نعم , غريبة أنا في هذا العالم و الغربة فيَّ تقتلني ! و لا أظنني بالجهل الذي يجعلني اخلط سهوا او عمدا بين "الغربة" و "الاغتراب " . فالغربة شيء أكبر, اعمق , اقسى و اخطر من أن نحصره في البعد عن " الوطن " !
قد تكون الغربة فعلا هي البعد عن الوطن , لكن أي وطن ؟ وطن لأجسادنا أم لأرواحنا أم لمشاعرنا أم لأحلامنا أم لأفكارنا .. أم .. أم .. الخ ؟!!
عشت عمرا و انا اعرف عن الغربة ما يعرفه الآخرون , انظر اليها بعيونهم و اعيشها باقلامهم . اقرأ عن غربتهم على أنها غربتي لكن ذلك لم يكن يداويني و لم يشفي علتي , لأنه لم يكن يعبر حقا عني . الى أن ادركت أنه بقدر ما اسكن انا في عوالم الغربة , الغربة أيضا تسكنني ! فلم ابحث عنها خارجي إن كانت تسكن داخلي ؟! إليكم ما اعرفه عن الغربة من خلال رحلة بحث غصت فيها في اعماق غربتي :
الغربة هي جوعنا المزمن للحب و تعطشنا الدائم للإيمان . فالفرد منا يعيش حياته منذ ولادته حتى وفاته يبحث بيأس عن موطن لمشاعره الجياشة , يبحث عن العاطفة و الحنان أينما حل و ارتحل , كما يلتمس بشكل مضني ملامحا لنور الايمان في داخله . لا يهم فعلا من أو ماذا نحب ولا بمن أو بماذا نؤمن , بقدر ما يهم احتياجنا الكبير لأن نحب و أن نؤمن ! فالعاطفة و الإيمان يذيقاننا طعم الانتماء و يخلقان لنا " وهم الوطن " !
الغربة هي تلك المساحات الشاسعة بين حدود المشاعر و الأفكار : بين الخير و الشر , بين الحب و الكره , بين الإيمان و الالحاد , بين السعادة و الحزن , بين الوهم و الحقيقة .. بين الشيء و اللاشيء ! إنها صحاري قاحلة من الحيرة , عصية على الإدراك و الوعي البشري . إنها عوالم كلنا نسكنها و لا يسكنها أحد , لأننا لا نستطيع إدراكها و فهمها لذا لا نؤمن بوجودها !
إنها متاهة نفسية في داخل كل منا نأبى الاعتراف - حتى لأنفسنا - أننا ضائعون فيها بلا أدنى أمل في الخروج ! إنها لغز نبذل كل ذرة من ذكائنا و حكمتنا و صبرنا و كل ثانية من عمرنا لإيجاد حل له, مع ذلك نعجز عن حله لأنه ببساطة لا حل له ! هذه الحيرة تتعبنا و ترهقنا داخليا بشكل كبيرا نظرا للجهد الجبار الذي نبدله للوصول إلى إحدى الضفتين , فلا يهم فعلا إن كنا أشرار أم أخيار , مؤمنين أم ملحدين , سعداء أم تعساء .. المهم أن نستطيع تأطير حدود معروفة لما نحن عليه . فكم هو مؤلم ألا نعرف ما نحن عليه !
الغربة هي سجن الروح داخل الجسد ! روح تتوق إلى الحرية , إلى التحليق في عوالم الطهر و النقاء و الجمال و المثالية , إنها روح الطفل الذي لا يبارحنا أبدا بل يظل في مكان ما داخلنا . وجسد يخضع باستسلام إلى الطبيعة كعبد معدوم الإرادة , جسد يهرول كالمجنون نحو الشيخوخة و الفناء ! جسد تتحكم الطبيعة من خلاله فينا و تجبرنا على العيش وفق ما تمليه علينا . فكلما نمت أجسدنا و نضجت تحتم علينا التصرف بنضج " الكبار " , بكثير من " العقلانية " و قليل من "الجنون" , بكثير من التحفظ و قليل من " الحرية " , بكثير من الحذر و قليل من العفوية .. تجبرنا أجسادنا على تقييد أنفسنا طواعية و تجعلنا نخوض صراعا داخليا مدمرا بين ما نحن عليه و بين ما نريد أن نكون عليه , تجعلنا نهمش ارواحنا امتثالا لرغبات " الطبيعة" ! و لا اقصد ب" الطبيعة " هنا فقط ما هو فيزيولوجي , بل اقصد كل شيء يقع خارجنا ! انها غربة الطفل فينا داخل أجسادنا !!
الغربة هي داءنا " الصامت" الذي نصاب به جميعا دون استثناء . فهل عثورنا على الحب [ الصداقة ] و الإيمان و ... و تصالحنا مع ذواتنا يشفينا من غربتنا ؟ لا اظن , كل ما سلف ذكره لا يشفينا و إنما يلعب دور المسكن فقط ! لأنني أؤمن بشدة أننا نولد غرباء و نموت غرباء و نقضي حياتنا نبحث عن وطن , نقضي جل سنين عمرنا نحارب هذا المرض دون وعي كامل منا !
هل تقتلنا غربتنا ؟ بشكل مباشر لا أعتقد , بل عدم قدرتنا على ادراك غربتنا هو غالبا ما يقتلنا سواء فعليا أو نفسيا ! فذاك الغريب الذي يسكن في داخلنا عصي على الفهم , يصعب علينا التواصل معه , بل يستحيل ذاك في معظم الاحيان . لذا يحاول - بلغته الخاصة - التعبير عن وجوده حتى و إن استلزم منه ذلك القضاء علينا ! فمِنّا من تقوده غربته إلى الانتحار , ومنا من تبعث به إلى الجنون , و منا من تؤدي به إلى الاكتئاب و الوحدة و العزلة , و هناك من تجعله يتخذ قرارات خاطئة في لحظات " لا غربة " وهمية كقرار الحب و الاعتقاد و تقرير المصير .. ! و هناك من تتفجر الغربة في داخله في شكل إبداع ... و هناك من ترمي به غربته إلى هاوية الحياة و تجعل منه فردا عاديا مستهلكا غير خلاق , بلا طموح و لا هدف و لا أمل في التطور . هذه الفئة يكون مرض الغربة فيها قد بلغ مراحل متقدمة لأنهم اكثر جهلا من غيرهم بوجود هذا الداء الفتاك في دواخلهم . إنها فئة " البؤساء " !!
شعورنا بالغربة ليس بالأمر الغريب و لا الاستثنائي .. بل هوعادي للغاية و يكاد يكون طبيعيا , فنحن نشعر بالغربة لأننا ببساطة " غرباء " !
7 التعليقات:
أختي ليلى،
أولا اشكر لك رسالتك على التويتر لسببين، لما قلت فيها و لأن بفضلها تعرفت على مدونتك.
هذا النص متشبع جدا بصورة كثيرة عن الغربة، كل صورة تستحق مقالا مطولا و به يكون هذا النص كتابا إن تم تفصيل كل صورة.
سأعيد قراءته مرة اخرى كي استوعب كل ما جاء فيه
"الغربة هي جوعنا المزمن للحب و تعطشنا الدائم للإيمان" قوية جدا هذه الجملة، جدا جدا
ساعود لقراءة متانية لباقي تدويناتك
التدوين المغربي بخير مادام يتوفر على اقلام مثلك
:)
أولا أشكرك على تعليقك الاكثر ممن رائع ..
و هو مميز لثلاثة أسباب , أولها أنه أول تعليق يردني منذ أنشأت المدونة من حوالي الشهر و نصف الشهر , ثانيها أنه منك , و ثالثها أني قرأته بعد ليلة طويلة قضيتها في قراءة تدويناتك حرفا بحرف .
أشكر جزيل الشكر الشخص الذي عرفني على مدونتك , لا أظنك تدرين كم أنك مبدعة ... استمتعت كثيرا بتدويناتك و آمل أن تعودي لتبهرينا أكثر :))))
بالتوفيق :)
تدوينة رااااائعة.. فعلا انك مبدعة... استمري صديقتي
جميل ما خطت يداك هنا :)
شكرا لك اخي هشام .. الاجمل مرورك :)
شكرا لك :)
اشكرك عن موضوع الغربة الجميل الاكثر من رائع
إرسال تعليق