الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

الموعد الأول


كان يراقبها في ذهول كلما مرت من الزقاق , يتأملها بهدوء كما لو كانت تحفة نادرة يخشى عليها من ان تتكسر تحت وقع نظراته ! كلما رآها يُقْبِلُ على السجائر بلهفة  و كأنه يُقبل عليها هي , لا يدري إن كان يدخن السجارة ام يدخنها هي !! ما إن تفارق عينيه حتى يطلق تنهيدة مريرة و ينفث الدخان من بين شفتيه على مضض و كأنَّه يخشى الا يبقى في صدره الا هي !

ما ينفك يتذكر -كلما رآها- أنه معدم فقير و أن الحبَّ لا يليق بالفقراء ! لم يجرؤ يوما على مصارحتها بحبه العظيم , لم يطلعها يوما على براكين الشوق التي تثور في داخله منذ زمن طويل . كان يكتفي بمتابعتها عن كثب , يبحث في تعابير وجهها الجميل عما يشجعه على اتخاذ الخطوة الاولى , يبحث في نظراتها -العرضية- إليه عن صدى لعشقه في تينك العينين العسليتين ! 

ظل مكتفيا بدور العاشق الصامت لسنوات , و هو يراها أمام عينيه تكبر , تتفجر فيها الانوثة و ينضج في تفاصيل جسدها الجمالُ , و هي تتفتح في ربيع عمرها كوردة جورية تتراقص عيون الشباب لِمَرآها .. اضحت الغيرة تمزقه كلما وقع نظره احد سواه عليها , يقتله عجزه عن كفِّ نظراتهم المتوحشة عنها . يصرخ قلبه بحرقة : " غضوا ابصاركم عنها , إنها حبيبتي أنا , ملكي أنا ..  !" لا أحد يسمعه , فصوته اضعف من أن يسمعه أحد سواه .. يتعب من الصراخ فيلعن بشدة فقره و بؤسه اللذان أحالا عشقه الى عذاب مستمر ! 

و أخيرا جاء اليوم المنتظر ؛ لقد حصل على فرصة عمره التي لاطالما حلم بها ؛ منحة التفوق لإكمال دراساته العليا بالخارج .. كان السفر الأمل الوحيد أمامه لينزع عنه ثوب الفقر الذي ألبسته إياه الظروف رغما عنه ! 

" سوف أُصارحها -اخيرا- بحُبي , لربما هي الأخرى تبادلني نفس الشعور ... سأطلب منها  انتظاري ريثما أعود من السفر, .." ظل يردد هاته الكلمات في خاطره و هو متوجه بثبات و ثقة نحو حبيبته . استوقفها في الطريق بكل هدوء ,  لم ينظر إليها حتى , طلب منها بعد تعلثم و تردد أن تقابله قُرب "السقّاية" القديمة بعد ساعة من الزمن  , و رحل بعد أن ابتسمت له شبه ابتسامة - على استحياء- فهم منها أنها ستلبي طلبه !

اتجه صوبا نحو "السقاية" منتظرا موعدهما الأول بفارغ الصبر . طيلة تلك الساعة ,  كان الانتظار يقتله و يحييه في الثانية ألف مرة ! كان قلبُه يُحدثه تارة أنها سوف تأتي , و تارة اخرى يزرع الشك في نفسه في مجيئها ! توقفت مذابح الشك و الحيرة و التوتر في قلبه بمجرد أن لمحها من بعيد آتية , مترددة الخطى , تلتفت ورائها مع كل خطوة خشية أن يراها أحد !و ما إن وقعت عليها عيناه حتى شرع قلبه في الخفقان بشدة و سرى مزيج الاندرنالين و العشق في عروقه معلنا لحظة الحسم !

وقفت أمامه و عيناها تتحاشى النظر إليه , و ظل هو يتأملها بعينيه و كأنه يراها للمرة الأولى , لم يكن قط قريبا منها لهذه الدرجة . ظل يحدق بها و كأنه يكتشف في ملامحها المرسومة بدقة أكبر أسرار الجمال ! خيّم الصمت عليهما إلا من صوت عينيه تسبِّحان الخالق الذي صور ذاك الوجه الملائكي ! نظراته المتيّمة اربكت جمودها المصطنع .. بلعت ريقها وجهت نظرها نحوه في محاولة لحثه على الكلام .. لكن لسانه لم يطاوعه ؛ ماذا سيقول لها ؟ من أين يبدأ لها حكاية عشقه التي امتدت طيلة هاته السنين ؟ كيف يصف لها ولعه بها منذ الطفولة او ربما قبل الطفولة بكثير ؟!  بما سيفسر لها حبه العميق و صمته الأعمق ؟؟ اسئلة و اخرى كانت تقتل -تباعا- كل الكلمات التي أعدّها لهذا الموقف الذي طال انتظاره ! 

فجأة , كسرت الصمتَ قبلةٌ مفاجئة لم يتوقعها أي منها , قبلة قالا من خلالها كل ما تعذر عليهما قوله ! قبّلها من دون أن ينطق و لو بكلمة , قبلها بشوق و كأنه عاش عمره الماضي يستعد فقط لهذه القبلة ! 

رفع نظره إلى عينيها التي كانت تحدق في الارض من أثر " خجل ما بعد القبلة الأولى" ! وضع يديه على كتفيها قائلا - كما لو أن تلك القبلة اختصرت سنين من العشق و عشرات من المواعيد الغرامية - و بدون مقدمات : " انتظريني حتى اعود من سفري , سوف ادرس و اشتغل و اتعب فقط لأجلك , سوف ... " قاطعته واضعة يدها على شفتيه : " ابن عمي طلب يدي و .. !! " و تكفلت دمعة يتيمة عبرت خدها بمهمة إكمال كلامها !  

وقعت تلك الكلمات على قلبه كالصاعقة , رفع يديه عنها و تراجع للوراء خطوتين , شرع هو في الضحك بشكل هستيري و هو  ينظر إليها , و شرعت هي في البكاء بشكل هستيري و هي تبتعد عنه ... ظل يتابعها بعينين ملؤهما الدمع و الحسرةحتى توارت عن انظاره ! 

التفت حوله فجأة كمن استيقظ من النوم لتوه , نظر إلى ساعته و همس بنبرة حزينة : " لقد تأخرَت جدا عن موعدنا الأول , كنتُ أعرفُ أنها لن تأتي !!" ثم رحل .. !

0 التعليقات:

إرسال تعليق