الخميس، 11 أبريل 2013

حكاية جندي !


 عاد إلى الوطن..
محملا بعار الانتصار أو حلم الهزيمة.. ايهما اصح ؟ لا يهم !

عاد بروح تُنازعُ وجسدٍ يُحتضر.. يحملُ في حقيبته بقاياه كإنسان، وبضع رصاصات محظوظة ضلت طريقها إلى جسد أحدهم.. وشتلة زيتون من ارض احدهم، أشفق عليها من التراب الأحمر أو علّها هي من أشفقت عليه من الذنب الأحمر ! يريدُ أن يُحلَّ بركتها ويغرسها في أرضه التي كفَّ أيديَ الموت عنها إلى حين !

وكمن يود ان يتخلص من اخر دليل على إدانته، يخلع عنه زيَّ الحرب.. معلناً للمرآة عن جروح روحه قبل جسده!

تنظرُ الجراحُ إلى نفسها فتنتحب لهول منظرها، وتنزفُ.. بل تبكي وصاحبها لا يملك سوى أن يبتسم ! تلك الندبة اللعينة - التي خلفتها الحرب - قرب شفتيه تحرمُه طعم العبوس، تسلبه الحق في الحزن وتُجبره على أن يبتسم ! 

لا تحرك بشاعة المشهد ساكنا فيه.. فقد رأى حتما ما هو ابشع.. الحرب ! 
ينحني على جسده يلعقُ دموع جروحه بنهم مواساة لها بشفاء قريب وتحسباً منه لنوبة بكائها التالية !
بعدها، يدفنُ روحه المشوهة في جسده الجريح، ويدفن هذا الأخير في زي عسكري مهيب استعداداً للاحتفال !

يجولُ بين الناس.. هو يعرفهم فرداً فرداً، يعلمُ اسماءهم جيداً.. فهو من استبدلها في صحيفة الموت بأسماء أخرى من الضفة المقابلة، من حيثُ عاد ! لكنهم  لا يعرفون عنه سوى أنه كان مشروع قتيل وفشل.. لا يعرفون له إسما سوى " الجندي البطل " ! هذه المرة يبتسم قصداً ساخرا من نعت " البطل " ! كيف تُؤتى البطولة والمجد لمن قَتَل لا من قُتِل ؟! 

ما يلبثُ يشتم رائحة الموت تملأ المكان، تُطارده أينما حل وارتحل.. فيبحثُ كالمهووس عن مصدر الرائحة..
يقوده بحثه إلى مهجعه القديم، يتبينُ له أخيراً أنها جثت أحلامه التي خبأها بعناية تحت سريره قبل أن يرحل ! 

يُلقي برأسه على الوسادة، فيستعيد بعضاً من ذاك الحالِم النابض بالأمل الذي كانه يوم !

يشعره الماضي بالاختناق فيعيدُ ارتداء بذلته القديمة ليُتيح لجروحه مجالا لتتنفس لها وله ! 
جروحه التي تقتله هي نفسها التي تربطه بالحياة ، هي فقط كل ما يملكُ !!

يُلقي بنفسه مرة أخرى على السرير ويأخذ في استنشاق " عبير " الموت ويبتسم !

لا يعرفُ عنه الأخرون سوى ابتسامته.. ابتسامة توحي بكل شيء عدا الفرح !
يبتسم لهم كرهاً وطوعاً، فهم على كل حال لا يملكون له شيئاً..
ربما لأنهم لا يكترثون، بل لا يملكون الوقت والصبر للاكتراث لأوجاع روحه وملامح وجهه , لجرحه الذي يُجعله مبتسما رغما عنه !

يجد أخيرا بين الجموع أهله، يعرفهم وهم له منكرون !
تلك أمه الثكلى، وذاك أبوه الكظيم.. وتلك أرملته التي لم تكن زوجته قط، واولئك أطفاله اليتامى من صلب رجل سواه..
جميعهم مبيضّو العين من الدمع أسفاً، مسودّو القلوب من الحداد عليه !
يخلعُ ثوبه عنه ويلقيه على وجوههم علّه يعيد بصرهم وبصيرتهم إليهم، لكن أنى له ذلك ؟! فلا هو ببراءة وكرامة يوسف، ولا هم بصبر وحكمة يعقوب ! جميعهم يعلمون جيداً أن من يذهب إلى الحرب لا يعود أبداً !

يلتفتُ الجمع إلى جروحه..
سرعان ما يهمُّون بخلع زيَّ اللامبالاة عنهم، كاشفين بدورهم عن أجساد مزخرفة بالجراح وأرواح مشوهة بالألم !
تنظرُ الجراح لبعضها البعض، فتنزف وتبكي حتى تُغرق الأرض بالدماء ! هي نفسها الأرض التي ظن - جهلا - أنه بالتضحية بغيرها قد حال بينها وبين الموت !

يلتفتُ اخيرا إلى شتلة الزيتون.. يبدو له أن قدرها أن تعيش في التراب الأحمر وتُسقى من نزف الجراح !
يبتسمُ لها مرغماً فتبتسم له.. فلا يدري حقاً إن كانت ابتسامة رضى أم هي الأخرى تملك من الألم ما يُجبرها على الابتسام !

هي قصة جندي جريح، يضحك من فرط الألم.. لا يجابه جُرحه ولا يتحداه، هو فقط ما عاد يعرف كيف يبكي ويصرخ !
عاد إلى أرضه مثخناً بالموت يلتمس فيها قبساً من الحياة !
عاد إلى الوطن ولم يجده.. فأضاف جرحاَ آخر إلى القائمة وابتسم !















0 التعليقات:

إرسال تعليق