الأربعاء، 25 يونيو 2014

رمضان.. مهرجان الفرح

رمضان في ذاكرتي اكثر من مجرد شهر للصيام والعبادة، بل هو أشبه بمهرجان شعبي يحتفى فيه بالبساطة والفرح. يضفي كل سنة على الحياة الرتيبة طعما مختلفا وطابعا خاصا.
مهرجان لا يحتاج الى تنظيم مسبق او حتى ترخيص بل يبدأ بتلقائية شديدة، فلا احد يعلم متى يبدأ ولا كيف.. فقط تستيقظ في احد صباحات شعبان على رائحة السفوف او الشباكية فيكون ذلك إعلانا على اقتراب الشهر الأجمل والأعظم في السنة، فتجد الحركة قد دبت في ارجاء المنزل ومنه الى الحي وباقي المدينة استعدادا لاستقبال الضيف العزيز .. تسارع النساء الى شراء "قوام" الحلويات وما يلزم من "مونة" الشهر الفضيل- التي تختلف في الكم والوفرة عن باقي الشهور- كالحمص الذي يشترى بوفرة وينقع في المياه ، والقزبر والبقدونس والكرافس والطماطم المعلبة والعدس وغيره لزوم الحريرة.. والدقيق والسميدة والزيت والزبدة لزوم المسمن والحرشة والبغرير.. وورقة البسيطلة لإعداد البريوات وغيرها.. وكل ما يلزم لإعداد الشباكية والسفوف.. الخ. بعدها يحين وقت إعداد الحلويات المتعارف على إعدادها خصيصا لاجل رمضان، وفي ذلك تتنافس المتنافسات.. 
هذا المهرجان كان بالنسبة لي احتفاء بالحواس اكثر من اي شيء اخر؛ فعيناك ترى بهجة الاحتفال في وجوه الكل كبارا وصغارا، وفي امتلاء الاسواق ورواج السلع.. ولسانك يتذوق الكرم وحب المشاركة في الأطباق الممتلئة عن اخرها بما لذ وطاب والتي ما تنفك ترى الجارات يتبادلنها فينما بينهن لتقاسم الفرح قبل " الملح ".. ويداك تلمسان التفاني والحب والعطاء كلما لامستا يد رجل يكد ويتعب لاجل ان يُدخل "القفة د رمضان" التي تدخل معها الفرحة لاسرته.. او يد امرأة تعكف طول اليوم على ازالة الشوائب من " الزرارع" وهرسها بالمهراز -الذي لا يعود صوته مزعجا كما في العادي من الايام - وغربلتها الى ما غير ذلك مما يستلزمه إعداد الحلويات. لكنها لا تشتكي بل تقوم بذلك بكل حب وسعادة .. وأنفك يستنشق طيب الأحياء التي تعبق برائحة الشباكية والبريوات وكاوكاو المحمر والزنجلان وحبة حلاوة والنافع (...) المنبعثة من اغلب المنازل، ورائحة الدقيق المحترق المنبعثة من فرن الحي.. وأذناك تستشعر الفرحة في أصوات المارة الذين يباركون لبعضهم البعض "العواشر"، وفي صخب الأطفال الذين يهرولون في الاحياء مرددين بحماس منقطع النظير : " تيريرا تيريرا.. هادا عام الحريرة ..". لا يعلو على اهازيجهم الطفولية سوى صراخ صاحبة الدقيق المحترق التي تشتكي لصاحب الفرن، والمتْعلم (صاحب الفعلة) يسمع جدالهما وينفذ بجلده قبل ان يلقى نظير انشغاله عن تحمير الدقيق باللعب ب" الطرومبية" مع اطفال الحي .. تتعالى الأصوات بين مشتك ومتوعد ومتدخل بالصلح ليشفع للصبي المتعلم عند معلمه باعتبار انهم  في  ايام " عواشر "..يتداخل كل ذلك الهرج مع أصوات نساء أخريات تستعجلن طلباتهن من عند العطار او "مول السفنج " الذي يبيع " ورقة البسطيلة" او بائع الأواني البلاستيكية التي تحفظ فيها النساء الحادكات الحلويات وغيرها من الشهيوات..
وأكثر ما خلد في روحي قبل ذاكرتي  هو الروحانية التي كانت تتسم بها تلك الايام حتى تكاد تخال نفسك قد نُقلت الى دنيا غير الدنيا.. تتنفس السكينةَ في ذرات الهواء فتملأ بها رئتيك وتشعر ان الله قريب سميع مجيب.. تستشعر حبه في ضحكات الصغار وفرحة الكبار وترى عطفه في الخيرات والرزق الوفير الذي يهل على فقيرنا قبل غنينا.. لم يكن  الاستعداد النفسي والروحي لرمضان  اقل في شيء من باقي الاستعدادات، فترى النساء المتكاسلات تسارعن الى صيام ما تبقى عليهن من دين وترى تارك الصلاة قد عاد يحث الخطى يبحث عن رضى الله وترى الرحمة الانت القلوب فتصدق أصحابها على ذوي الحاجة فيكثر الحامدون والشاكرون لفضل الله ونعمه .. 
اصف كل هذا وفي قلبي غصة وحنين، فما عدنا نستقبل رمضان بنفس الحفاوة والكرم فظن علينا وبخل بأجواء الفرح والبهجة.. مهرجان البساطة اختنق وسط التكلف ومات يوم ماتت القناعة فينا وما عاد القليل يقنعنا ويكفينا وما عدنا نعرف كيف نخلق من الاشياء البسيطة اعراسا من الفرح.. ما عادت الأذان تستطعم الفرح في عبارة " مبروك عواشرك " اذا قيلت .. وما عادت نساؤنا تجتمعن في السطوح لتنقية الزنجلان وغيره من الزرارع فيختلط "زنجلاننا" بزنجلان الجيران فيكثر الخير ويفيض، وما عادت تتطوع من تملك المهراز من بينهن الى اعارته الى باقي النساء، وتستعير بالمقابل الغربال من إحداهن و"الطحانة " من الاخرى... الان صار لكل واحدة مهرازها وغربالها وطحانتها وزنجلانها الخالص لها وحدها فقل الخير وشح ! حتى أطفالنا ما عادوا يبتهجون لاجل رمضان وما عاودوا ينشدون أهازيج في حب " الحريرة".. غابوا عن الأحياء وغابت اغانيهم وغابت شكوى النساء من صخبهم ومن رائحة الطحين المحروق منذ غاب الصبي المتْعلم وغاب فرن الحي عندما تفشت الأفران المنزلية في البيوت.. وماتت الحياة منذ غاب مهرجان الفرح والبساطة ومنذئذ ما عاد رمضان يشبه نفسه الا في ذاكرتي.. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق