الثلاثاء، 25 فبراير 2014

ذاكرة الجوع

     كان شارد الذهن كعادته امام التلفاز، حيث يجلس مسترخيا على الأريكة، حين باغته صوت طفله الذي صاح فجأة: " امي انا جائع"
أخرجته الجملة من شروده لتدخله في حالة من التوتر الشديد الذي ازدادت حدتها مع تكرار الصبي للجملة؛ تقلصت حدقتا عينيه واحمرّ بياضهما، واضطرب تنفسه بشكل ملحوظ.. لم يكن يعرف ما إن كان الصبي من يردد الجملة ذاتها لعشرات المرات أم هي من كانت تتكرر في أذنيه من تلقاء نفسها.
انتشل جسده من على الاريكة بعد ان اشتد حنقه واتجه صوباً نحوه الصبي ممسكا بذراعه.. كان غاضبا جداً لدرجة كاد يكون لغضبه رائحة تشتمها على بعد أميال. تقلصت ملامح وجهه وهو يصيح: "ألم أقل لك قبلا ألا تعيد هذه الجملة مرة أخرى ؟ إن كنتَ جائعاً اذهب الى المطبخ وتناول ما شئت.."
هرعت زوجته نحوهما تحتضن الصبي بينما تسأل زوجها عما يحدث. التفت إليها إلا أنه لم يسمع ما كانت تقوله .. حوّل نظره نحو الصبي ليجد نفسه ممسكا بذراعه بقوة تكفي لتكسرها. افلتها بسرعة كمن يتنكر لما فعله للتو.. تراجع خطوتين إلى الوراء .. نقل نظراته بينهما.. حاول أن يعتذر لكن تلك الجملة اللعينة عادت  إلى رأسه ثانية.
تشنجت ملامح وجهه من جديد، ثم توجه إلى الصبي:"إياك أن تعاود الكرة من جديد، أ فهمت؟"  اعتصر جبينه ثم أردف بنبرة حزينة: "صدقني بني، أنت لا تعرف معنى الجوع !" بعدها اتجه نحو غرفة المكتب.
 تابع الصبي ما حدث بدهشة  لم يضاهيها سوى ألم ذراعه، نظر إلى أمه بعينيه الذابلتين من البكاء لتحتضنته بقوة اكبر..
" هناك الكثير ممن يعانون الحرمان والفقر والجوع، ووالدك يعمل بجد ليوفر لنا حياة كريمة كي لا نكون منهم.. عندما ستكبر ستفهم تصرف والدك" قالت امه في محاولة منها لشرح ما حدث. بدت غير مقتنعة بما تقولك وكذلك كان الصبي، لكنه أحبَّ أن يصدق ما قالته، فهو يحب والده كثيرا.
نجحت الأم بطريقة أو أخرى في تهدئة الجو هناك، أما خلف باب المكتب فقد كان الجو مشحونا للغاية والزوبعة التي هدأت خارج المكتب بدأت للتو  داخله !
أقفل الباب بالمفتاح كما يفعل عادة في مثل هذا الموقف.. أسند رأسه على الباب وأخد نفساً عميقاً محاولا نسيان ما حصل للتو. جال بعينيه أرجاء المكتب الفسيح ذي الاثاث باهظ الثمن والمكتبة المتخمة بمئات الكتب..رأى أن قراءة أحدها قد يهون عليه قليلا، لكن حين وصل إلى منتصف الغرفة تهيأ له أن الكتب جميعا غادرت الرفوف واحاطت به في شكل حلقة تدور حوله، استحالت افواهاً من ورق تردد بشكل جنوني: " أمي أنا جائع.. أمي أنا جائع".. بدا الامر أشبه بطقس شيطاني غريب او زار من نوع خاص.
أمسك برأسه غير مستوعب لما يحدث. حاول طرد تلك الاوهام منه.. أغلق ادنيه لكن بلا جدوى. بعدها تحولت الحلقة إلى دوامة ابتلعته لتلقي به إلى مكان آخر.
غيّر المكان مفرداته من مكتب فخم إلى غرفة حقيرة في منزل متواضع، بها امرأة بائسة الملامح، في منتصف التلاثينات من عمرها وطفل لم يتجاوز السابعة.
يصرخ الطفل:" أمي أشعر بالجوع.. أمي أنا جائع"، لكنها لا تحرك ساكنا البتة. يعيد الطفل شكواه مستجديا إياها.. بعد محاولات عدة، تضيق درعا به وتصيح في وجهه بقسوة مصطنعة: "ماذا تريد لي أن أفعل إن كنتَ تشعر بالجوع؟ ها.. ليس هناك في المنزل طعام!"
يضرب الطفل الارض بقدميه المتسختين متذمرا: "لكني جائع جدا"
عندها تشمّر عن ساعدها وبمزيج من الغضب والمرارة تجيبه: "كُلْني إذن !"
كانت تلك المرأة والدته وهو كان ذاك الطفل. بدا أن كل تلك المشاعر التي انتابته يومها قد عادت إليه.  تكوم في  إحدى الزوايا محتضنا جسده، كم كان يود حقاً لو أن امه احتضنه حينها.. سحقا لذاكرته اللعينة التي أعادته لأربعة عقود إلى الوراء !
صحيح أن الأيام ابتسمت له بعد سنين عجاف، لكن ذاكرته حتما لا تعرف كيف تبتسم. تبتلعه على حين غرة كأنها ثقب أسود.. أسود بكل ما للكلمة من معنى !
تواصل الكتب الناطقة طقسها الجنوني لتلقي به مرة أخرى لمكان أخر من ذاكرته.
يتذكر وجبات الطعام. كان عددها يتباين بين يوم وآخر؛ كانت ثلاث وجبات في أيام الرخاء التي لم تكن تتكرر كثيرا، ليتقلص العدد إلى وجبتين في الأيام العادية. أما في الأيام الصعبة كثيرا ما كان العدد يؤول إلى الصفر، تاركا للجوع المجال لبسط سيادته المطلقة على بطونهم الخاوية !
كان هو اخوته الاربعة ووالداه يتناولون الطعام جميعا الزاما ومن نفس الطبق، لا حفاظا على روح الاسرة ولكن لأن الوجبة ما كان لتحتمل التقسيم.
قبل أن يوضع الطبق على المائدة كانوا يستعدون له جيدا. لم يكن غسل اليدين  واعداد الاطباق والشوك والسكاكين جزء من الاستعدادات، بل كانت الاخيرة تقتصر على الحفاظ على لياقة الفكين واليد اليمنى مما يساعد على التهام اكبر قدر من الطعام باكبر سرعة ممكنة ! 
ما إن تضع الام الصحن حتى يرمق الاخوة الى بعضهم البعض بنظرة لم يتفقوا على معناها قبلا لكن  الكل يعرفه جيدا. كان الامر حقا أشبه بمعركة !
لم يكن قادرا على مجاراة اخوته في سرعتهم الرهيبة في ازدراد الطعام لذا عادة ما كان يحصل على اقل نصيب. كان يتمنى حينها لو كان حيوانا مجترا كي لا يضطر لتضييع وقته في المضغ !
اما الابوان كانا يكتفيان ببضع لقيمات مفسحين المجال لأطفالهم المجال لسد الرمق. كانت الام تفسر ذلك بكونها تتبعه حمية لإنقاص وزنها وكون ابيهم غالبا ما يكون قد تناول الطعام سلفا مع اصدقائه. لم يكن احد مقتنعا حقاً بقولها لكنهم أحبوا أن يصدقوه. فليس لهم رفاهية البحث عن الحقيقة لأن صوت الجوع أقوى من كل شيء.
تسقط دمعة باردة من عينيه الغارقتين في تفاصيل الذكرى، لتعيده لأرض الواقع. يرسل يديه إلى جيب سترته تبحث له عن سيجارة.. عرضاً تسقط منه علبة علكة بطعم النعناع. يتذكر كيف كان ينتزع العلك -التي اعتادت النساء الصاقها اسفل المائدة او الكرسي بعد الانتهاء منها- ويغسلها ثم يعيد مضغها . اثارت الذكرى قرفه، فعدّل  وضع جسمه كي يتقيأ لكن شيئا لم يخرج من فمه، فهو لم يتناول شيئا منذ أكثر من يومين. منذ زمن بعيد اعتاد ذلك وما عاد يشعر بحاجة إلى الطعام حتى زوجته ما عادت تسأله عن ذلك.
يضرب رأسه بقبضته محاولا بيأس إبعاد تلك الذكرى من رأسه.. يهم بإشعال السيجارة، لكن ذاكرته مرة أخرى توقف، تعيده الى حيث كان يلم اعقاب السجائر من الارض ليعيد استعمالها.
يضرب رأسه بقبضتيه هذه المرة بقوة اكبر لكن دون جدوى.
في محاولة يائسة للتملص من ماضيه، يذكر نفسه بما أصبح عليه الآن.. بزوجته الجميلة وطفله الرائع.. بمنزله الجميل وشقته الفسيحة في وسط المدينة ومزرعته.. بأرصدته في البنوك.. بوظيفته وأصدقائه الاغنياء ومعارفه النافذين الذين ولدوا وفي افواهم ملاعق من ذهب في حين ولد هو ولم يكن في فمه سوى كلمة الجوع !
اقنع نفسه أنها نوبة عابرة كما سابقاتها، واستجمع قواه متجهاً نحو الباب. لكن ذاكرته ابت أن تدعه يفلت هذه المرة. هاجمته بعنف فلم يستطع مقاومتها..
يتذكر نفسه عاكفا لساعات على انجاز الواجبات المنزلية لزملائه بالمدرسة مقابل بضع قطع نقدية كان يضيفها لما بحوزة اخوته ليساعدوا في شراء بعض الطعام.
يتذكر السن التي فقدها بسبب لكمة من أخيه الاكبر لأنه استحوذ على حصة هذا الاخير من الخبز.
يتذكر يوم لم يجد فيه هو واخوته طعاما في البيت سوى قليل من الخبز اليابس كالصخر، عندها أخذه احدهم وسحقه في المهراز  وقدمه لهم قائلا مع ابتسامة لا لون لها: كل ما هو صالح للمضغ هو صالح للأكل !
يتذكر صوت امعائه الخاوية التي كان يمنعه من النوم ليلا.
يتذكر أنه لم يعرف حينها معنى الشبع ولو لمرة، فقد كان يأكل فقط ليصبح أقل جوعا !
أخذ يتذكر كل التفاصيل وينتقل بين أعمق حفر ذاكرته الي كانت له أسوء من الجحيم.
عاد ثانية ليتكوم في الزاوية مستسلما لبكاء مرير، وأخذ يضرب مؤخر رأسه بالجدار كلما زادت حدة بكاءه عله يفقد ذاكرته.
يسمع طرقا على باب المكتب. إنها زوجته تود الاطمئنان عليه كعادتها. " هل انت بخير؟" تسأله بقلق.
يريد أن يجيبها أنه ليس على ما يرام، أن يستغيت بيها لتنقذه من ذاكرته، لكنه لم يستطع. يبدو له أن الامور هذه المرة خرجت عن السيطرة. حتى عندما اراد ان يفتح لها الباب ابى جسده إلا ان يتوجه به نحو المكتب؛ جلس لا اراديا على الكرسي، فتحت يده احد الادراج واخرجت منه ورقة وقلم. حاول أن يكتب ليرتاح لكنه لم يستطع.. خط أخيرا كلمتين على الورقة والقى بالقلم في انهزام.
في هذه الاثناء كان زوجته القلقة تطلب مساعدة الخدم في فتح باب الغرفة بعدما لم تتلق منه اي جواب. قبل أن يصلوا إلى الباب صدر من خلفه صوت قوي دوى في المكان: طاخ ! ساد بعده لثوان صمت رهيب.
سارعوا بكسر الباب، ليجدوا جثته منكفئة على مكتبه، بجانب رأسه بقعة من الدم على شكل رغيف خبز وورقة كُتب عليها: " قتلتني ذاكرتي " !

0 التعليقات:

إرسال تعليق